سورة القصص - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


قلت: {في زينته}: حال، {ويْكَأنه}: مذهب الخليل وسيبويه: أن وي: حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة: ويك هي ويلك؛ حذفت اللام منها؛ لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة: ويكأن بجملتها كلمة. قاله الثعلبي، وقال البيضاوي: ويكأن، عند البصريين، مركب من وي؛ للتعجب، و كأن، للتشبيه. اهـ. وقال سيبويه: وي: كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
يقول الحق جل جلاله: {فخرج} قارونُ {على قومه في زينته}، قال جابر: كانت زينته القرمز، وهو صبغ أحمر معروف. قيل: إنه خرج في الحمرة والصفرة، وقيل: خرج يوم السبت على بغلة شهباء، عليها الأرْجُوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والديباج.
{قال الذين يُريدون الحياةَ الدنيا}، قيل: كانوا مسلمين، وإنما تمنوا، على سبيل الرغبة في اليسار، كعادة البشر، وقيل: كانوا كفاراً، ويرده قوله: {لولا أن مَنّ الله علينا..} إلخ. {يا ليت لنا مِثْلَ ما أُوتي قارونُ} من المال والجاه، قالوه؛ غِبْطَةً. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له، دونه. وهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} [النساء: 32]، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضر الغبطة؟ فقال: «لا...» الحديث. {إنه لذو حظٍ عظيم} من الدنيا، والحظ: الجَدُّ، وهو البخت والدولة.
{وقال الذين أُوتوا العلمَ} بالثواب والعقاب وفناء الدنيا، أو: أتوا العلم بالله، فيؤخذ منه: أن متمني الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس؛ إذ لا يتمناها إلا المحب لها، وهي رأس الفتنة. فأيّ علم يبقى مع فتنة الدنيا؟! قالوا في وعظهم لغابطي قارون: {وَيْلَكُمْ}؛ هلاكاً لكم، فأصل ويلك: الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع على ترك ما لا يرضى. وقال في التبيان في إعراب القرآن: هو مفعول بفعل محذوف، أي: ألزمتكم الله ويلكم، {ثوابُ الله} في الآخرة، {خير لمن آمن وعَمِلَ صالحاً} مما أوتي قارون، بل من الدنيا وما فيها، {ولا يُلقَّاها} أي: لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، {إلا الصابرون}. أو: لا يلقى هذه القوة والعزيمة في الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا.
وفي حديث الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك اللباس- أي: الفاخر-؛ تواضعاً لله تعالى، وهو يَقْدِرُ عليه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا»
وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال؛ بيتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ» أي: ليس معه إدام.
قال تعالى: {فخسفنا به}؛ بقارون {وبداره الأرض}، كان قارون يؤدي موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه؛ للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه: على كل ألف دينار دينارٌ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ، فحاسبه فاستكثره، فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال له: قد أطعتم موسى في كل شيء، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت، قال: نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار، أو: طستاً من ذهب، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه، فقال قارون: وإن كنتَ أنتَ؟ قال: وإن كنتُ أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت: جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال: اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه: مُر الأرض بما شئت فيه، فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل: إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعاً غير رَجُلَيْن. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارونُ وأصحابه يتضرعون إلى موسى، ويناشدونه بالله وبالرحم، وموسى لا يلتفت إليهم؛ لشدة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم. فقال الله تعالى: يا موسى؛ استغاث بك مراراً فلم ترحمه، فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته.
رُوي أنه يخسف كل يوم قامة، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال بعض بني إسرائيل: إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً، أي: لا آمرها تطيع أحداً بعدك.
{فما كان له من فئة}؛ جماعة {ينصرونه من دون الله}؛ يمنعونه من عذاب الله {وما كان من المنتصرين} من عذاب الله، أو: من المنتقمين من موسى.
{وأصبح} أي: وصار {الذين تمنَّوا مكانَه} أي: منزلته من الدنيا {بالأمس}: متعلق بتمنوا. ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت القريب، استعارة. {يقولون ويْكأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدرُ} أي: أعجب مما صنع بقارون؛ لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، وهو عنده ممقوت، {ويقدر} أي: يضيقه على من يشاء، وهو عنده محبوب.
{لولا أن مَنَّ الله علينا}؛ بصرف ما كنا نتمناه بالأمس، {لخسف بنا} معه، كما فعل بالرجلين {ويْكأنه لا يُفلح الكافرون} أي: اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضي: كأنه المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون، فقال له: عجباً منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: إنه لا يفلح الكافرون، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز: ويكأن الله معناه. ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف؛ سيدي عبد الرحمن بن يوسف اللجائي في كتابه: اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {قال الذين يريدون الحياة الدنيا...} الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين؛ فإن القلب إذا لم يقنع لو ملك الدنيا بحذافيرها لم يشبع. وقال بعض الحكماء: القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. اهـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا:
إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا *** فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا *** وَسَخَّرَ النَّاسَ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه *** وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ *** ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ


قلت: {تلك}: مبتدأ، و{نجعلها}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: {تلك الدارُ الآخرة} أي: تلك الدار التي سمعْت بذكرها، وبلغت خبرها. وعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، {نجعلها للذين لا يُريدون علواً في الأرض} أي: تكبراً وقهراً كحال فرعون، {ولا فساداً}؛ عملاً بالمعاصي، أو ظلماً على الناس، كحال قارون، أو قتل النفس، أو: دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك بالفعل أم لا. وعن علي رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحيه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل: أن قرأها، ثم قال: ذهبت الأماني ها هنا وعن عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. {والعاقبة} المحمودة {للمتقين} ما لا يرضاه الله؛ من العلو والفساد وغير ذلك.
{ومن جاء بالحسنة فله خيرٌ منها} ذاتاً وقدراً ووصفاً، {ومن جاء السيئة}؛ مالا يرضاه الله تعالى، {فلا يجزى الذين عملوا السيئات}، أصله: فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر؛ لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، {إلا ما كانوا يعملون}؛ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة: جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة- وهي الوصول إلى الحضرة- للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم: (ادفن نفسك في أرض الخمول؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ). قال في التنبيه: لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هي مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. اهـ.
وكان شيخ شيخنا يقول: نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. اهـ. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه: ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت: ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق؛ لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما.
فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال: ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه؛ لأن ذلك عيش نفسه. اهـ.
قلت: وهذا مقام من المقامات، والعارف الكالم لا يتغير قلبه على فقد شيء؛ إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، (مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق.


قلت: {ولا يصدنك}: مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد.
يقول الحق جل جلاله: لرسوله صلى الله عليه وسلم {إن الذي فَرَضَ عليك القرآن} أي: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، {لرادُّك إلى معاد} عظيم، وهو المعاد الجسماني؛ لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو: لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها؛ لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره؛ لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد؛ لغلبته- عليه الصلاة والسلام- ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية، لكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له: قل ربي أعلم من جاء بالهُدى أي: يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني نَفْسَهْ صلى الله عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، {ومن هو في ضلال مبين}؛ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
{وما كنتَ ترجو أن يُلقى}؛ يوحي {إليك الكتابُ} أي: القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه؛ كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، {إلا من رحمةً من ربك}، لكن ألقاه إليك، رحمة منه إليك، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى كأنه قال: وما أُلْقِيَ إليك الكتاب إلا رحمة من ربك {فلا تكونن ظهيراً}؛ معيناً {للكافرين} على دينهم؛ بمُداراتهم والتحمل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم.
{ولا يَصُدُّنَّك عن آيات الله} أي: لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، {بعد إذ أُنزلت إليك} أي: بعد وقت إنزالها، و{إذ}: مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ ويَومَئذٍ. {وادعُ إلى ربك}؛ إلى توحيده وعبادته، {ولا تكونن من المشركين}، نهاه، تنفيراً لغيره من الشرك.
{ولا تَدْعُ مع الله إلهاً آخر}، قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي. وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، {لا إله إلا هو}: استئناف، مقرر لِمَا قبله، {كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجْهَهُ} أي: ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي: لكل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية.
وقال أبو العالية: إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. اهـ. وقال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
{له الحُكْمُ}؛ القضاء النافذ في خلقه، {وإليه تُرجعون}؛ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها: إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية؛ فيقولون: {ربي أعلم} الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي: لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي: إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي: معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه: إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
الله قُلْ وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى *** إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ دون اللهِ إِن حَقَّقْتَهُ *** عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ والعَوالِمَ كُلَّها *** لَوْلاَهْ فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ
مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ *** فَوُجُودُهُ لولاه عَيْنُ مُحَالِ
فَالْعَارِفُون فَنَوْا وَلَمْ يَشْهَدُوا *** شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ
وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً *** فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال
وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10